الدكتوراه البرنامج الدولي
حوار حول فلسفة التعامل مع النص الديني
بقلم محمد مأمون
تتشرف كلية الدراسات العليا التابعة لجامعة سونان كاليجاكا الإسلامية الحكومية، جوكجاكرتا إندونيسيا بحوار علمي عن طريق طلابها الذين أخذوا برنامج التغدية العلمية بجامعة الزيتونة-الجمهورية التونسية مدة ثلاثة أشهر ابتداء من شهر ينايير ومرورا بشهر فبراير ووصولا إلى شهر مارس سنة ألفين وثمانية عشر.
هذا الحوار الذي جرى في التاريخ العاشر من شهر مارس 2018 تم تصميمه لطرح موضوع مهم كان في الغالب أساسًا لاختلاف الآراء بين المفكرين والمثقفين قدماء كانوا أم معاصرين في سياق استخراجهم المعارفَ والقيمَ والتعاليمَ من الكتاب المقدس وأيضا في سياق استجابتهم لتحدّيات الحياة البشرية بناء على الكتاب المقدس. ذلك لأن الله كرّم بني البشر بانفعال العقل وقوة الحس المشترك وصدق البصيرة والقدرة على اكتشاف اللغة والتعبير عنها إلى جانب أن كرّمهم بالوحي الرباني المتجلي في لغتهم البشرية. وفي ذلك دلالة قوية على أن الحديث عن اللغة وفلسفتها بما فيها لغة الوحي الرباني/الكتاب المقدس قد حظي بدرجة عالية من الأهمية. من أجل ذلك فالموضوع المعنيّ هو فلسفة التعامل مع النص الديني.
وقد تم إجراء الحوار حول هذا الموضوع مع التي من دعوتها وكَرَمِها أن يـجري هذا الحوار في دارها، وهي فضيلة د/ عائشة الحضيري، أستاذة الفلسفة بجامعة الزيتونة،والتي كتبت في هذا الموضوع كتابا جديرا بذكره وقرائته وهو "فلسفة اللغة والمعنى بين التوقيف والوضع والتأويل". فهذا الكتاب تتجلى أهميته الأولى في أنه يبحث عن أفق نظري مشترك بين الفلسفة الإسلامية والعلوم الشرعية خاصة علم الكلام ثم الكتاب المقدس من جهة أن موضوعه يتناول إشكالا تنازعته الفلسفة الإسلامية الوسيطة والعلوم الشرعية وهو الإشكال المتصل نظريا بكيفيةٍ تُـمَثِّلُ مصدرَ الألفاظ بين التوقيف الإلهي والوضع الإنساني والتأويل. وبذلك فكان من الأنسب أن يكون هذا الكتاب هوالمنطلق الأساسي لهذا الحوار الذي كان الطالب محمد مأمون -أحد طلاب الكلية الذين أخذوا برنامج التغدية العلمية بجامعة الزيتونة تونس-مضيفا فيه.
وفي المبادرة إلى الحوار بدأت د/ عائشة بكلمة التقدير والثناء على حسن خُلُقِ وجِدِّيَّةِ الطلاب الإندونيسيين الذين درسوا عامة في تونس وخاصة في جامعة الزيتونة التي هي أستاذة فيها كما أنها قدّمت تقديرها لكلية الدراسات العليا من جامعة سونان كاليجاكا الإسلامية الحكومية، جوكجاكرتا إندونيسيا على إرسال طلابها في برنامج التغدية العلمية الإضافية وعلى شرف حوارهم مع حضرتها وعلى رغبتهم في تتبُّع المعرفة حيثما كانت خاصة في تونس البعيدة كل البعد عن بلادهم.
ولما سُئِلَت د/ عائشة عن الدوافع التي أدّت إلى تأليف الكتاب وعن الأطروحة التي أثبتـتها فيه قالت إن هناك كثيرا من الدوافع في تأليف الكتاب منها أن إشكالية اللغة والمعنى والتأويل في المستوى الأولهي إشكالية مركزية في الفكر الإسلامي الوسيط (المتكون من الفلسفة والعلوم الشرعية بما فيها علم الكلام والفقه وأصوله والتصوف وما تقاطع معها من علم المنطق)، وأن فهم هذا الفكر الإسلامي الوسيط يقتضي أولا مرورا بهذه الإشكالية المركزية التي تحابك الفكر الإسلامي انطلاقا من القول في علاقة اللغة بالمعنى والإشكالات التي تطرحها. وفي المستوي الثاني فإن د/ عائشة أرادت إثبات أن هناك نسقيةً داخلَ الفكر الإسلامي الوسيط ينتمي إليها القول خاصة في "الاسم والمسمى" وما له من علاقة في بيان "أسماء الله وصفاته وذاته وتأويلها" فضلا عن إرادتها في إظهار أطروحتها في هذا الكتاب.
أما أطروحة د/ عائشة فتتكون في المستوى الأولمنإثبات وجود هذه النسقية انطلاقا من تتبّع شجرات في الفكر سواء في الفلسفة أوعلم الكلام أوالتصوف، وتتألففي المستوى الثاني من أن هناك اشتغالا أساسيا بفلسفة الغزالي والارتداد منها إلى مستوى فلسفة ابن سينا والفارابي من أجل بيان أن التحول الإبستيمولوجي الفعلي قد ترأّى مع الغزالي لأنه أول فيلسوف قد أدخل علم المنطق الذي اشتغله من الفلسفة إلى الاشتغال بالعلوم الشرعية في مجال علم الكلام وفي مجال أصول الفقه وفي علم المنطق نفسه داخل الفكر الإسلامي، لأن هذا الأخير(مجال علم المنطق) قد بدأ يتركّز بشكل واضح مع الغزالي، بمعنى أن ما قبل الغزالي كان هناك تأسيس لعلم المنطق بعلم اللغة العربية مع الفارابي، كما أن هناك أيضا بعض التطوير لعلم المنطق وبعض الاشتغال به فيما يتعلق بالميتافيزيقا مع ابن شينا، أما الغزالي فقد أدخل المنطق في مجال التطبيق مع العلوم الشرعية، وبالجملة فإن الأطروحة التي أثبتها في كتابه هي أن هناك تغيّرا فعليا إبستيمولوجيا انطلاقا من القول في مسئلة "الاسم والمسمى" وعلاقتها بالمجال اللغوي والتأويلي ثم انعكاس ذلك عن المجال العقدي والتشريعي والعملي.
من هذا المنطلق فلما سئلت د/ عائشة عن "الإمكانيات في استخدام بعض النظريات أو القواعد أو المناهج التي جاءت بها في كتابهامن أجل الاستعانة بها في قراءة النص الديني (القرآن تحديدا) في هذا العصر العولمي"فإنها قالت "إن مما لابد في التعامل مع النص المقدس أن يبتدئ المتعامل معه باستخدام بعض المواقف الفلسفية".وكانت هذه الأستاذة تشير إلى أنها تستند إلى ما قام به الغزالي من تفطُّنه في توحيد الفرق الفكرية الإسلامية في عصره التي تكاد يكفر بعضها بعضا بوضع قانون حاسم معين في التأويل كما تبيّن في رسالته التي سماها ب "رسالة قانون التأويل" لأن كلمة القانون تعني كلمة القطع والضرورة وما يجب أن يكون، فمن هنا تظهر المسألة وهي "كيف يخضع الأمر الذي في أصله لايخضع إلى قانون فكيف يمكن إخضاعه إلى القانون"، فلا بد حينئذ من أليات المنطق التي استعملها الغزالي الذي اعتبر أن للتأويل شروطه أوقوانينه.
فمن شروط التأويل عند الغزالي كما عبّرت عنها د/ عائشة (أولا) الإلمامُ بالاستدلالات والقياسات المنطقية وبدلالات الألفاظ على المعاني وفق الطريقة المنطقية والتمييز بين بعضها البعض من المشتركة والمتواطئة والجزئية والكلية وما إلى ذلك، و(ثانيا) إدراك مراتب الوجود التي سماها الغزالي باالمراتب الخمسة وهي ما يقال عليها بالوجود بمراتبه الخاصة (ثالثا) إتقان اللغة العربية التي نزل بها الوحي بشكل من أشكال أنواع علومها و(رابعا) الإلمام بالنص الشرعي لأنه لايمكن تمام الاشتغال بتأويل النص والحال أن النص مجهول، فهذه الشروط هي التي وضعها الغزالي حتى يحدّ من تهافت تلك الفرق المختلفة والتي لابد من الإتقان بها لكل من أراد تأويل النص الديني والتعامل معه، بمعنى أن الغزالي وإن كان لم يذكر التحديات المعاصرة العولمية فإنه حينئذ قد أشار بذلك إجمالا إلى المتعاملين مع النص المقدس من بعده وحث لهم على أن يعتمدوا على علوم عصرهم في الاشتغال بتأويله، بحيث يكون ذلك النص ليس بمعزل عن العلم بل يتداخل في التأويل كل من النص والفلسفة والمنطق وما إلى ذلك حسب تطور العلوم.
وأما ما يتعلق بضوابط التأويل في العضر العولمي فإن د/ عائشة تستند إلى رأي المفكرين المعاصرين منهم محمد أركون الذي حسب رأيهاقد ثمّن ما قام به الغزالي وابن رشد فيما يتعلق بالتأويل وضوابطه مع اعترافه بعدم كفاءة تلك الضوابط إذا كان الأمر مضبوطا بعصر العولمة وعصر تطور الثقافات والعلوم والتكنولوجيات وغيرها وفي نفس الوقت في عصر يتوازن ويتقدم علميا وتقنيا، بمعنى إذا كنا نحن اليوم قد تحدثنا عن التطور في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التجربة والفلسفة والرياضية وما إلى ذلك فهل يمكن أن يُعْزَل النّصُّ المقدس عن واقعه اليوم؟ فإذا عُـزِل النص القرآني عن واقعه اليوم مع هذه العلوم الإنسانية والتجربية فكأننا تركنا النص في رفض وتقدمنا في العلوم بحيث تصبح هناك هوة بين النص القرآني وكيف يجب أن نتعامل معه وبين العلوم التي تسيل في اتجاه التقدم، إذن، فإن هذه العلوم من شأنها أن تكون وسائل وأدوات ضرورية لإعادة قراءة النّصِّ المقدس/القرآن لأن صلاحية الشيئ لكل زمان ومكان مبنية على تواكبه مع عصره.
ولما طُرِح على د/ عائشة السؤال الأخير وهو "كيف نتجاوز تأخّر (توقف) ثقافات المسلمين وحضاراتهم، وهل يتعلق ذلك بمركزية التعامل مع النص الديني؟" فإنها عادت واستندت إلى ما جاء بهابن رشد ولم تعد إلى الغزالي في هذا الجانب، لأن ابن رشد حسب رأيها قد أظهر جزءا من هذا المشكل في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" وهو كيف ينفتح المسلمون على حضارات غيرهم خاصة ما كان من حضارات سابقيهم من اليونانيين والفرس والهندوغيرهم، فابن رشد قد دعى في كتابه المذكور بصريح العبارة إلى ضرورة الانفتاح وعدم الانغلاق على ذلك، فالقول بأن النص القرآن مركز أي أنه مركز العالم دون أن ننفتح على ذلك هو أولا قول جاهل واضح لأن النص دُفِعَ إلى الناس كافة ولا إلى شكل من أشكال الملكية الخاصة، وكأن المسلمين وحدهم هم الذين يمتلكونه فينغلقون على ذلك.، فهذا هو المشكل الأول الذي جعل النص منغلقا.
أما المشكل التالي الذي ذكرته د/ عائشة فهو عدم الاجتهاد في النص بمعنى أن هناك قضايا حارقة اليوم فقهية وغيرها، هناك على سبيل المثال أسئلة طرحت اليوم ولم تطرح للأمس فكيف يمكن أن نحكم اليوم على فقه الأمس بل يفترض علينا أن نكون مجددين في المجال الفقهي مثلا كما يفترض الانفتاح على علم آخر، بمعنى أن اقتناء أداة من غيرنا لنستعملها في علومنا لايفسدها، وبالجملة فإن د/ عائشة حثّتعلى محاولة تطوير قرائتنا للنص القرآني بما توفر لنا من النصوص العلمية اليوم من أجل تجاوز توقف حضارات المسلمين، وذلك عن طريق محاولة التقدم في المستوى العلمي وضرورة مغادرة الانغلاق وضرورة الانفتاح على علوم العصر وضرورة الانخراط في مشاكل الإنسان اليوم ثم ضرورة التوضع أيضا لأن في نهاية الأمر هي حضارات إنسانية لها من مقدساتها ولها من قدومها ومن سلوكها. وفي نهاية الإجابة فإن د/ عائشة أشارت إلى اعتقادها بأن السر الذي يمكن أن يعود المسلمون إلى التقدم موجود في كلمتي "اقرأواقرأواقرأ -ثم- اعملواعملواعمل" وذلك هو القراءة (العلم) التي يعقبها عمل وسلوك ونظام حياة. [[محمد مأمون]]
تنبيه: هذا الحوار يمكن النظر إليه من خلال موقع اليوتوب التالي:
الفرع الأول :
https://www.youtube.com/watch?v=rv-_GBInNXw
الفرع الثاني
https://www.youtube.com/watch?v=50bBnJgxyug
الفرع الثالث